بقلم نور الدين زوبدي
توالت النكسات على مجلس ترابي، وتوالت معها الخيبات التي لم تترك للمدينة سوى الحسرة والتراجع. كل دورة انتخابية كانت تلوّح بأمل التغيير، وتُلهب قلوب الساكنة – بمن فيهم من غادرها بحثاً عن لقمة العيش – ببارقة رجاء في غدٍ أفضل. لكن الواقع كان عنيداً، ودار لقمان بقيت على حالها، بل ازدادت بؤساً وتراجعاً.
ومع تكرار الإحباط، تحوّل حديث المقاهي وتجمعات الأعراس والعزاء إلى سؤال محوري: ما الذي أصاب هذه المدينة؟ ولماذا كل من يُسلّط على شؤونها يزيدها خراباً؟
ذات مساء، حضرتُ مناسبة عائلية في أحد أحياء المدينة العتيقة، وبينما كنا جلوساً نتجاذب أطراف الحديث، تنهد أحد المدعوين قائلاً بأسى:
"أش هاد الذنب اللي على هاد المدينة؟ كل مرة يسلطو عليها شي بلاء!"
فرد عليه شيخ طاعن في السن، بدت على ملامحه هيبة من عركتهم التجربة في دواليب الشأن المحلي:
"شوف أوليدي... هاد الشي اللي واقع، راه سبابو ذنوب بغل."
ضجّ المجلس بالضحك، لكن الشيخ لم يضحك، بل قال بجدية:
"علاش كتضحكو؟ هادي هي الحقيقة!"
ثم استرسل في سرده العجيب قائلاً:
"في واحد الزمن، كان عند المجلس البلدي بغل، يستعملوه فجر عربة ديال جمع الأزبال. وكانو مخصصين ليه ميزانية ديال عشرين ألف درهم. ومع ذلك، كان البغل نحيف، جلده على عظمه، ما قادرش حتى يجر العربة المسكينة."
وتابع:
"فواحد من جلسات المجلس، المعارضة طرحت السؤال: آش كيديرو بهاد الميزانية؟ البغل باين عليه جوعان، واش كيمشي الفلوس فصاحبه ولا كيفاش؟ لكن الأغلبية تجاهلات السؤال، وحتى أن واحد منهم قال بسخرية: 'إلا عجبك البغل بزاف، دّيه لدارك وتهلا فيه!' وضحكو عليه، وساهمو فتمرير جدول الأعمال كالعادة، بلا حسيب ولا رقيب."
وواصل الشيخ الرواية بأسى:
"البغل مسكين، مات فالإسطبل ديال المجلس، بالجوع. بقا أيام على حاله، حتى نتن وشمت ريحتو الجيران والمارة. ما تدخل حتى القايد البور، المعروف بصرامته، اللي أمر بنقل الجثة ودفنها بعيداً."
ثم ختم الشيخ قائلاً:
"من داك النهار، والمدينة كتخلص ذنوب داك البغل... كل مجلس كيجي، يطيح فشي بلاء. البغل مظلوم، وحقو باقي ما تصفى!"
فانفجر الحاضرون ضاحكين، وقال أحدهم ممازحاً:
"خصنا ندوّرو على فقيه يدير كفارة على روح البغل!"
وكان من بين المدعوين رجل سبعيني ذو لحية بيضاء، لا يزال إلى اليوم عضواً في المجلس البلدي، وقد عاصر معظم المجالس التي تعاقبت على المدينة منذ حادثة "البغل". ظل صامتاً يستمع، كأنما يعيد شريط الذكريات بكل ثقلها. ولما سمع الحديث عن "الكفارة"، رفع عينيه وقال بصوت هادئ يحمل نبرة اعتراف:
"لقد أجرمنا في حق هذه المدينة... نحن من داخل المجلس، لم نكن دائماً على قدر الأمانة. سكتنا أحياناً، وغضضنا الطرف أحياناً أخرى. لكن دعوني أقولها الآن، الكفارة الحقيقية ليست في نذر ولا ذبيحة، بل في أن نُعيد هؤلاء الذين تسلطوا عليها إلى حال سبيلهم، وأن نسترجع القرار من أيدي العابثين، وأن ندير شؤوننا نحن، بضمير حي ومسؤولية، قبل أن تلفظ هذه المدينة أنفاسها الأخيرة."